الاثنين، 3 أغسطس 2009

مناقشة ملحمة السراسوة

تقيم دار ميريت للنشر بوسط البلد الأربعاء 22 أبريل الساعة الثامنة، ندوة لمناقشة
رواية "حملة السراسوة" للكاتب أحمد صبرى أبو الفتوح، يناقش الرواية الدكتور حسانين كشك وجار
النبى الحلو وأسامة الرحيمى، ويدير الندوة محمد هاشم.

نقلا عن وجدى الكومى
جريدة اليوم السابع

من جريدة الاسبوع ملحمة السراسوة


22 / 5 / 2009
من باب العشم - ‬ملحمة السراسوة

خيري شلبي
علمنا أساتذة النقد الكبار أن إحدي أهم وظائف الأدب الروائي تسجيل العوالم المتفردة في تاريخ الإنسانية وتجارب الشعوب قبل انقراضها لتكون بمثابة رصيد حي تستقي منه الأجيال العبر والدروس وتستلهم الأفكار الخلاقة الباعثة علي التجاوز والارتقاء بالسلوك الإنساني والوطني في تجدد مطرد‮. ‬ذلك أن رواية واحدة يكتبها أديب موهوب عن فترة تاريخية معينة أو حتي عن الواقع الراهن لهي أكثر فاعلية وتأثيرا وتنويرا من عشرات الكتب التاريخية الباحثة عن الحقائق بين الأدلة والوثائق فالتاريخ واسع الذمة كما نعلم‮.
وفي الأدب المصري المعاصر اختلط علينا مفهوم الرواية التاريخية زمنا طويلا هل هي الرواية التي تعتمد علي شخصيات تاريخية وأحداث وقعت بالفعل؟ إن كانت هكذا فإن الرواية المصرية قطعت فيه شوطًا محترمًا علي أيدي جورج زيدان وعلي الجارم ومحمد فريد أبو حديد ومحمد سعيد العريان‮. ‬أم أن الرواية التاريخية هي التي تبعث الحياة في فترة تاريخية بأكملها من خلال شخصيات وأحداث جري تأليفها وتسويتها من عجينة الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان قائمًا في تلك الفترة التاريخية التي استنبتت فيها شخصيات واحداث الرواية؟ لقد تبلور هذا المفهوم في الدراسات النقدية المعاصرة علي ايدي الكثيرين من كبار النقاد وعلماء الجمال وبناء عليه تكون رواية '‬السائرون نيامًا‮' ‬لسعد مكاوي ورواية '‬الزيني بركات‮' ‬لجمال الغيطاني نموذجين مكتملين الي حد كبير تجلي فيهما مفهوم الرواية التاريخية في رؤيته الحداثية‮.‬
والي هاتين الروايتين العظيمتين اضيف بكثير من الجسارة وربما الحماسة نموذجا ثالثا علي درجة عالية من النضج الفني،‮ ‬هو هذه الرواية الكبيرة التي صنفها مؤلفها بأنها ملحمة‮ '‬السراسوة‮' . ‬اما المؤلف فهو الاستاذ احمد صبري ابو الفتوح المولود في محافظة الدقهلية في العام الثالث والخمسين من القرن الماضي‮. ‬درس القانون في جامعة القاهرة ثم عمل وكيلاً‮ ‬للنائب العام،‮ ‬وتدرج في مناصب القضاء حتي عمل رئيسا للنيابة العامة ثم استقال من القضاء وعمل بالمحاماة‮ .‬
احدثك الآن عن الجزء الأول الذي صدر منها بعنوان‮ '‬الخروج‮' ‬لكأنه سفر الخروج‮. ‬ويقع في نحو خمسمائة صفحة من القطع المتوسط ويعلن المؤلف عن اربعة اجزاء قيد النشر هي‮: '‬ملحمة السراسوة - التكوين‮' ‬،‮ ‬و'ملحمة السراسوة - ايام أخري‮'‬،‮ ‬و'ملحمة السراسوة - شياطين وملائكة‮'‬،‮ ‬و'ملحمة السراسوة‮ .. ‬حكايات أول الزمان‮'.‬
اشهد بأنني قد بهرت حقا بقراءتي لهذا الجزء الأول‮. ‬بوابة الانبهار بدأت بالدخول في خبر هذه العائلة المصرية المتجذرة في بنيان الطبقة المتوسطة الزراعية الكبيرة،‮ ‬دون الاقطاع بقليل جداً،‮ ‬عائلة السرس التي انشأت القرية المصرية الشهيرة سرس الليان وإنها لمصادفة فنية سعيدة أنها عائلة المؤلف أحمد صبري أبو الفتوح،‮ ‬الذي تفتح خياله الفني علي تاريخ عائلته العريقة ماثلاً‮ ‬في أدبيات العائلة،‮ ‬وعلي أمجادها الغابرة حاضرة في حكايا لا تنتهي،‮ ‬الاب والجدة والأعمام والاخوال كلهم دفاتر سٌجلت عليها تفاصيل تتسق مع ما تبقي في الواقع الراهن من صور فوتوغرافية للراحلين،‮ ‬ومن بقايا عز لم يمحه جور الزمان‮.‬
لقد ورث أحمد صبري أبو الفتوح طفولة عائلته في طفولته فراحت تسبقه في النمو،‮ ‬علمته الأدب والعلم كإحدي أهم سماتها منذ أن ارساها الشيخ موسي السرس الجد المباشر للعائلة في عصرها الحديث،‮ ‬عصرها الذهبي‮.. ‬تاريخ الجبرتي وابن اياس وعبدالرحمن الرافعي ومن جاء بعدهم يتحول الي ما يمكن تشبيهه بالشاشة الفضية التي تتجسد فوقها أحداث حياة مروعة في واقع تاريخي ملموس بل ممسوك باليد،‮ ‬حيث الحياة عناء ورجال اشداء وطموح مبطن بالورع والتقوي،‮ ‬من مشهد الافتتاح الذي يعتبر وحده ملحمة شقاء لذيذ،‮ ‬حيث الشيخ موسي السرس مسافر من منوف إلي القاهرة ليلتحق بالأزهر الشريف،‮ ‬إلي مشهد الدفن الأخير لواحدة كانت بمثابة النبع الحي في تاريخ العائلة‮. ‬إن الأسلوب الدرامي البارع،‮ ‬الخالي من كل ترهل،‮ ‬والنفس الشعري الدافئ المبثوث في لغة القص يملؤها بالشجن والقدرة علي الاستقطاب،‮ ‬كل ذلك يبيح له في تصوري أن يصف روايته هذه بالملحمة فصحيح أن الملحمة لابد أن تكون شعرًا،‮ ‬ولكن الشعر هنا قد تحرر من جميع الأنظمة العروضية،‮ ‬فأخلص لموسيقي الواقع التاريخي المحتدم‮.‬


--------------------------------------------------------------------------------

هذا المحتوى مطبوع من صحيفة الأسبوع المصرية
www.elaosboa.com

السبت، 25 يوليو 2009

قيل عن الأديب أحمد صبرى ابو الفتوح

كتب أحمد عبد الحفيظ بجريدة العربى يوم 19/7/2009
الأستاذ هو الأستاذ محمد حسنين هيكل أديب من طراز خاص جدا، يحمل يداخله رهاقة الشاعر، وبراعة الروائى، وريشة الفنان التشكيلى الحاذق. قمة أديبة ذهبت إلى الصحافة السياسية فجعلت ميدانها اصطياد الخير، وتتبع المعلومة، ودقة التحليل، وسلامة الرؤية والنظر من الطبيعى حين تجتمع قمة الصحافة بقمة الأدب أن ينتج نموذج فريد غير قابل للتكرار ولا الشبه خاصة بعد أن حملته مصر عبدالناصر على جناحيها وطارت به فى الآفاق، ثم عاد يحملها على كتفيه ليشعل أنوارا فى ظلام بهيم. لذلك كله تفرد الأستاذ بمكانة الأستاذ. لأكثر من خمس وثلاثين عاما، امعنت فى قراءة الأدب، احترفت قراءة نجيب محفوظ بالذات، وقرأت عددا من أدباء المغرب العربى، وبالطبع طه حسين والحكيم والعقاد ويوسف إدريس ويحيى حقى وعبدالرحمن المنيف، والفقيه، وحنا مينا ومن لحق بهم من أجيال الأدب العربى على امتداد العصور. عرفت أن الكتابة الحقيقية التى تحقق المتعة ويتوهج لها الفكر هى تلك الكتابة التى تتعدد مستويات التعامل معها. منذ الثانوى لم ننقطع عن قراءة هؤلاء الإعلام، وكلما مضى الزمن يزيد الفهم،وترسخ المعانى، وتتعمق المتعة.وقرأت يوميات نائب فى الأرياف لأول مرة فى عامى الجامعى الأول، وكلما عاودت قراءاتها زادت قناعتى بأنها أفضل نص أدبى أتيح لى قراءته فى الأدب العربى المعاصر. وعرفت أن الكاتب الحقيقى يفقد توهجه إذا صار موظفا كبيرا هو عين ما حدث للمقريزى. وكلما قرأت مقالات كامل زهيرى المتتابعة فى العدد الأسبوعى من جريدة الجمهورية فى عهدها الجديد أيقنت أن على القارئ أن ينتبه كثيرا فى مواجهة كتابه المفضلين. زهيرى يفتح الباب ويدخل، ويوسع لنفسه، ويتابع، ويتأمل، ثم يلتقط، ويصنفر، ويرش التوابل والمشهيات، ثم يحيط بالحلوى والفواكه. ويقدم هذا الطبق الشديد التنوع فى سهولة وبساطة ويسر، ودون حشو ولا تحشير، ومع ذلك كله يريد أن يقنعنا بأنه ينظر فقط من ثقب الباب. ومن يسأل لماذا أصبح ضياء رشوان هو الخبير الأول فى شئون الجماعات الإسلامية فى بلادنا عليه أن يذهب إلى مكتبه فى مركز الدراسات فى جريدة الأهرام. عشرات الكتب تضيق بها أرضية المكتب ومقاعده ورفوف مكتبته. أكثرها تتعلق بأحدث نظريات النقد الأدبى وعلوم الخطاب واللسانيات. فإذا أضيف إلى ذلك قدراته الفكرية، وسعة علاقاته العامة، وحرصه على التوثيق والإسناد، وسلاسة أسلوبه كاتبا ومحدثا. كانت إجابة السؤال قد اكتملت. ونبيل عبدالفتاح فنان وأديب ومثقف كبير وإن كان يكتب بلغة الفلاسفة. فى الجامعة وبعدها بقليل كان حسين عبدالعليم وأحمد صبرى أبوالفتوح يكتبان، وكنت اقرأ، ونجلس لنختار العناوين فى بعض الأحيان. ثم انصرف أحمد صبرى للمحاماة فأبلى فيها على حساب الأدب الذى لم يتذكره إلا مؤخرا بمجموعتين قصصيتين ورواية. أما حسين عبدالعليم فقد استمسك باحتراف الأدب، وجعل المحاماة مهنة تضمن لقمة عيشه وتمنح زادا لعالمه الأدبى. وحين عاودت قراءة صاحبى بعد تقادم السنين وجدت أحمد صبرى بشحمه ولحمه كما كان أيام الجامعة كأن السنين لم تغير من ملامحه وإن عمقت بعض أغوارها وخطوطها. أما حسين عبدالعليم فأورقت وأينعت أشجاره الأدبية، ولا حرج على صديقّى فاحدهما كسبته المحاماة والآخر فاز به الأدب. وشيء ما غامض وساحر فى عروق كتابة إبراهيم عيسى. ولازلت أحب شمس محمد عبدالسلام العمرى البيضاء رغم مضى السنين، وأجرى وراء فئران سفينة مكاوى سعيد، وأتذكر يوميات خلود أيام براءة خالد الصاوى، وأعود لديوان عمرو حسنى الواد الشايب وأشعار إبراهيم داود البضة وأقف مع خيرى عبدالجواد فى ممر الحكايات ثمارتد إلى أبوالمعاطى أبوالنجا فى الجميع يستحقون الجائزة وبهاء طاهر فى أنا الملك جئت، وبالأمس حلمت بك، وشطح مدينة جمال الغيطانى، وبليل يوسف القعيد وبلدة إبراهيم عبدالمجيد الأخرى، وأخرج من فساد أمكنة صبرى موسى إلى براح خيرى شلبى فى وكالة عطية أو بساطة عبدالفتاح الجمل فى قريته محب أو إلى مشاهدة السائرون نياما كما رصدهم سعد مكاوى وكما لم تغادر يوميات نائب فى الأرياف مخيلتى باعتبارها أفضل ما قرأت من نصوص الأدب العربى المعاصر فمازال يمسك بى الاعتقاد بأن علاء الأسوانى منذ قرأت له من اقترب وراى هو أكثر أبناء جيله تأهلا للحاق بركب أهل القمة فى عالم الكتابة الأدبية. وجمال فهمى كاتبا ومحدثا علامة مميزة فى سجل الساخرين العظماء الممتد من الجاحظ إلى المأزنى وعبدالحميد الديب إلى توفيق الحكيم ثم السعدنى وعفيفى وأحمد رجب وفيليب جلاب والساخرين من غير الكتاب من عينية الجزار والفار.. إلخ أما عبدالحليم قنديل فقد نقل فخامة ألفاظ الكتابة الأسلوبية العربية وسطع بها فى أفق الكتابة السياسية. وفى يوم ما أعددت نفسى لإنتاج مشروع نقدى كبير قرأت ما لم يسبق لى قراءته، وأعدت قراءة ما سبق لى قراءته. وكانت الأعمال السابقة جميعا هى مادة مشروعى المعتزم. وحشدت كتابات النقاد الكبار من حجم وعيار حمودة وعصفور والراعى ومحمود حجازى والعالم وصلاح فضل وفاروق عبدالقادر، وأبوعوف.. وغيرهم، وجعلت اقرأ فى نظريات النقد الحديث نحو عام، وتوهج فى ذهنى أن الصوفية تغلب أعمال نجيب محفوظ وليس المادية التى أعلى من شأنها النقد اليسارى فى فترة سيادته للحياة الأدبية. لكنى وجدت أن الدكتور عبدالبديع عبدالله سبق إلى هذه الفكرة فى كتاب أصدره عام 1971 فخبا حماسى، ثم إنى استمعت لرؤية نقدية جديدة لأدب نجيب محفوظ قدمها صديقى الناقد الكبير عزازى على عزازى وتابعت كتاباته النقدية الأخرى، فغلب على ظنى أنه الأحق بصولجان النقد الأدبى، على الأقل فهو تفرغ له بينما شغلتنا السياسة نشاطا وبحثا وكتابة. واكتفيت بأن أجعل الأدب بستان راحتى، وغذاء وجدانى.

رواية السراسوة للأديب أحمد صبرى أبو الفتوح

كتب ابراهيم جادالله
بجريدة العربى العدد1167 الصادر بتاريخ 19/7/2009
صراع المصريين فى العصر المملوكي

صدر الجزء الأول من الخماسية الروائية «ملحمة السراسوة» للروائى أحمد صبرى أبو الفتوح وهذا الجزء بعنوان «الخروج»، وبرغم انه الجزء الأول فإنه صدر فى صورة رواية قائمة بذاتها، أقصد انه بنى بطريقة تحدث الأثر الذى يحدثه العمل الفنى أو الأدبى المتكتمل.
من اللحظة الأولى تأخذنا هذه الرواية الفذة الى قلب أحداثها، حيث يبحر مركب تجارى قديم فى رحلة نهرية شاقة من منوف قاعدة ولاية المنوفية قاصدا مصر المحروسة، وعلى متنها الشيخ سيد أحمد السرسى مصطحبا ابنه موسى لإلحاقه بالجامع الأزهر، وتأخذنا الرواية بدون هوادة الى أجواء العصر العثمانى المملوكى، بمسمياته وجغرافيته وسماته الاجتماعية، وحتى بروائحه القديمة، فالمركب التى تقل الشيخ وابنه الواعد وزوجه الطفلة مجهولة الاسم ترافق قافلة تجارية ضخمة قادمة من رشيد، اذ تتوافر على حراسة القافلة بلوكات أوجاقات الأسباهية بفرسانها الذين يعتلون خيولهم المطهمة وأسلحتهم تلمع تحت الشمس، لكن ذلك لا يمنع الأعراب من الإغارة على القافلة فى محاولة للاستيلاء عليها ونهب ما على المراكب من بضائع وأموال، ومن خلال أجواء الإغارة وطلقات البارود ورمح الفرسان بخيولهم تأخذنا المركب الى ميناء بولاق، وبفضل التوصية التى يحملها الشيخ لأفندى الجمرك من أحد أقربائه يمرون دون دفع مكوث وينطلقون صوب أبواب المدينة ليدخلوها وأذان الظهر يرتفع فى المآذن.
رحلة صعود الشيخ موسى السرسى ليصبح واحداً من كبار شيوخ الأزهر وأحد أركان الصفوة الاجتماعية والثقافية فى حاضرة البلاد تأتينا فى صورة بانوراما رائعة وتنفتح أمام القارئ مغاليق تلك الفترة المتأخرة من العصر العثمانى المملوكى الذى تتضافر فيها كل قوى الشر للقضاء على البقية الباقية من مقدرات الشعب، وهى نفس الفترة التى رمزت الى التأهب للإحساس بالذات الوطنية عبر حركة التمرد التى قادها والى مصر على بك الكبير، ونتيجة للجوار الذى جمع بين الشيخ الصاعد موسى السرسى ونفيسة هانم خاتون أرملة على بك الكبير فى الدارين المتجاورتين فى درب عبدالحق المطل على بركة الأزبكية تنطلق الرواية فى طريقها الذى لا يترك للقارئ فرصة لالتقاط الأنفاس.
لم تكن الحملة الفرنسية مجرد عثرة فى مسار الاحتلال العثمانى لمصر، لقد اكتشف المصريون كم هم مغيبون عما يجرى فى العالم من حولهم، ولم تكن مشاركة الشيخ موسى السرسى فى عضوية الديوان الذى أنشأه سارى عسكر نابليون بونابرت إلا محاولة لتسيير الحياة اليومية للشعب المصرى تحت الاحتلال، وبسبب صداقة الخاتون للشيخ يقبض عليه الفرنسيون لكنهم لا يحرمونه من أملاكه والتزامه ولا يصادرونه مثلما يفعل العثمانيون، وعندما يرحل الفرنسيون ويعود العثمانيون تعود الأوضاع الى سيرتها الأولى، حيث النهب والمصادرة واحتقار المصريين.
مبكرا تحدثنا الرواية عن الخلاف القديم بين المملوك البصاص قفل الذى كان مهتارا للشراب فى قصر الخاتون وبين الشيخ سيد أحمد الثانى الابن الأكبر للشيخ موسى السرسى، اذ لما علمت الخاتون ان مملوكها البدين يعمل بصاصا لصالح مراد بيك زوجها الثانى أبلغ أستاذه بتردد الشيخ وابنه الأكبر على قصرها طردته من خدمتها شر طردة، وانتقل المملوك المطرود الى قصر استاذه مراد بك الذى نظَّره على وقف محمد بك أبى الذهب فى قويسنا، ومن هذه اللحظة بدأ المملوك البدين رحلة الصعود، وبعد وفاة الشيخ موسى السرسى بأقل من سنة تولى محمد على حكم البلا، وكان المملوك البدين على موعد مع القدر، فلقد استعمله الوالى الجديد فى جمع المماليك لحضور حفل توديع ابنه طوسون الذاهب الى حرب الوهابيين فى الحجاز، وبفضل تلك المعاونة تمكن محمد على من القضاء على المماليك فى المذبحة الشهيرة، وصار قفل قرة عين الباشا ورجله المدلل، ولم يجد الباشا أفضل من أن يمنحه اقطاعية ضخمة هى كل زمام قرية سرس الليان البالغ مساحته أكثر من أربعة آلاف فدان، وهكذا وبين عشية وضحاها صار أبناء الشيخ موسى السرسى من زوجته الأولى مجهولة الاسم اجراء لدى غريمهم لتبدأ أحداث الخروج الكبير فى حياة السراسوة.
هاجم المملوك مطاحنهم ومعاصرهم واجترأ على طلب الوطر من كنتهم مريم، زوجة الشيخ أحمد الابن الأكبر لسيد أحمد الثانى، وأم أحمد الثانى بطل الخروج الكبير، ولم يجد السراسوة بدا من التخطيط لقتل المهتار القديم والخروج من سرس، ظنا منهم انها مجرد أشهر حتى يذهب الوالى محمد على ويجيء آخر على عادة الحكم العثمانى.
ان رحلة الخروج الدامية التى تقشعر لها الأبدان وتدمع من تأثيرها الأعين هى من أجمل الصحائف التى سطرها قلم فى أدبنا العربى، فلقد تضافرت قوى الطبيعة ضد هذه الأسرة التى خرجت من عرينها تتخفى تحت جنح الليل فى صورة أعراب يجوبون البلاد بقطعانهم، لكن القلم الروائى الرائع لا يتركنا حيارى أمام ذلك الوضع المأساوى للأسرة المنكوبة، فيأبى إلا أن يطلعنا على أدق التفصيلات فى تلك الرحلة الرهيبة.
اختاروا ان يذوبوا فى خضم الدلتا، وذهبوا الى أبعد مكان يمكن أن تطالهم فيه يد الوالى الجبار، لكنهم تبعثروا على طوال الطريق من سرس الليان وحتى ذلك المكان الذى استقروا فيه الى جوار تل الذئاب التابع لكشوفية السنبلاوين فى مديرية الدقهلية.
ولأنهم كانوا قد قطعوا على أنفسهم عهدا بأن يتوقفوا عن الفرار فى المكان الذى يدفنون فيه أحدهم استقروا فى تلك البقعة البعيدة بجوار تل الذئاب لما توفيت جدتهم الكبرى مجهولة الاسم، وأصبح لهم فى ذلك الثرى أحباباً يستحيل أن يتركوهم ويمضوا، لكنهم فى جوارهم مع الأعرابى الشرس شيخ فخذ المحاليف من قبائل السعدنى يستدرجون الى صراع يهدد وجودهم من جديد.
من دون مبالغة رواية ملحمة السراسوة لأحمد صبرى أبو الفتوح هى من أهم الروايات التى صدرت فى السنوات الأخيرة، وأجدنى أقول إنها ربما تكون من أهم الروايات فى الأدب العربى عندما يكتمل نشر باقى أجزائها، وما هذه الإطلالة إلا مقدمة لبحث أتوافر الآن على إعداده ودراسة شرعت بالفعل فى كتابتها، عن مسارات وأزمان وأسلوبيات هذه الرواية الفذة.