السبت، 25 يوليو 2009

رواية السراسوة للأديب أحمد صبرى أبو الفتوح

كتب ابراهيم جادالله
بجريدة العربى العدد1167 الصادر بتاريخ 19/7/2009
صراع المصريين فى العصر المملوكي

صدر الجزء الأول من الخماسية الروائية «ملحمة السراسوة» للروائى أحمد صبرى أبو الفتوح وهذا الجزء بعنوان «الخروج»، وبرغم انه الجزء الأول فإنه صدر فى صورة رواية قائمة بذاتها، أقصد انه بنى بطريقة تحدث الأثر الذى يحدثه العمل الفنى أو الأدبى المتكتمل.
من اللحظة الأولى تأخذنا هذه الرواية الفذة الى قلب أحداثها، حيث يبحر مركب تجارى قديم فى رحلة نهرية شاقة من منوف قاعدة ولاية المنوفية قاصدا مصر المحروسة، وعلى متنها الشيخ سيد أحمد السرسى مصطحبا ابنه موسى لإلحاقه بالجامع الأزهر، وتأخذنا الرواية بدون هوادة الى أجواء العصر العثمانى المملوكى، بمسمياته وجغرافيته وسماته الاجتماعية، وحتى بروائحه القديمة، فالمركب التى تقل الشيخ وابنه الواعد وزوجه الطفلة مجهولة الاسم ترافق قافلة تجارية ضخمة قادمة من رشيد، اذ تتوافر على حراسة القافلة بلوكات أوجاقات الأسباهية بفرسانها الذين يعتلون خيولهم المطهمة وأسلحتهم تلمع تحت الشمس، لكن ذلك لا يمنع الأعراب من الإغارة على القافلة فى محاولة للاستيلاء عليها ونهب ما على المراكب من بضائع وأموال، ومن خلال أجواء الإغارة وطلقات البارود ورمح الفرسان بخيولهم تأخذنا المركب الى ميناء بولاق، وبفضل التوصية التى يحملها الشيخ لأفندى الجمرك من أحد أقربائه يمرون دون دفع مكوث وينطلقون صوب أبواب المدينة ليدخلوها وأذان الظهر يرتفع فى المآذن.
رحلة صعود الشيخ موسى السرسى ليصبح واحداً من كبار شيوخ الأزهر وأحد أركان الصفوة الاجتماعية والثقافية فى حاضرة البلاد تأتينا فى صورة بانوراما رائعة وتنفتح أمام القارئ مغاليق تلك الفترة المتأخرة من العصر العثمانى المملوكى الذى تتضافر فيها كل قوى الشر للقضاء على البقية الباقية من مقدرات الشعب، وهى نفس الفترة التى رمزت الى التأهب للإحساس بالذات الوطنية عبر حركة التمرد التى قادها والى مصر على بك الكبير، ونتيجة للجوار الذى جمع بين الشيخ الصاعد موسى السرسى ونفيسة هانم خاتون أرملة على بك الكبير فى الدارين المتجاورتين فى درب عبدالحق المطل على بركة الأزبكية تنطلق الرواية فى طريقها الذى لا يترك للقارئ فرصة لالتقاط الأنفاس.
لم تكن الحملة الفرنسية مجرد عثرة فى مسار الاحتلال العثمانى لمصر، لقد اكتشف المصريون كم هم مغيبون عما يجرى فى العالم من حولهم، ولم تكن مشاركة الشيخ موسى السرسى فى عضوية الديوان الذى أنشأه سارى عسكر نابليون بونابرت إلا محاولة لتسيير الحياة اليومية للشعب المصرى تحت الاحتلال، وبسبب صداقة الخاتون للشيخ يقبض عليه الفرنسيون لكنهم لا يحرمونه من أملاكه والتزامه ولا يصادرونه مثلما يفعل العثمانيون، وعندما يرحل الفرنسيون ويعود العثمانيون تعود الأوضاع الى سيرتها الأولى، حيث النهب والمصادرة واحتقار المصريين.
مبكرا تحدثنا الرواية عن الخلاف القديم بين المملوك البصاص قفل الذى كان مهتارا للشراب فى قصر الخاتون وبين الشيخ سيد أحمد الثانى الابن الأكبر للشيخ موسى السرسى، اذ لما علمت الخاتون ان مملوكها البدين يعمل بصاصا لصالح مراد بيك زوجها الثانى أبلغ أستاذه بتردد الشيخ وابنه الأكبر على قصرها طردته من خدمتها شر طردة، وانتقل المملوك المطرود الى قصر استاذه مراد بك الذى نظَّره على وقف محمد بك أبى الذهب فى قويسنا، ومن هذه اللحظة بدأ المملوك البدين رحلة الصعود، وبعد وفاة الشيخ موسى السرسى بأقل من سنة تولى محمد على حكم البلا، وكان المملوك البدين على موعد مع القدر، فلقد استعمله الوالى الجديد فى جمع المماليك لحضور حفل توديع ابنه طوسون الذاهب الى حرب الوهابيين فى الحجاز، وبفضل تلك المعاونة تمكن محمد على من القضاء على المماليك فى المذبحة الشهيرة، وصار قفل قرة عين الباشا ورجله المدلل، ولم يجد الباشا أفضل من أن يمنحه اقطاعية ضخمة هى كل زمام قرية سرس الليان البالغ مساحته أكثر من أربعة آلاف فدان، وهكذا وبين عشية وضحاها صار أبناء الشيخ موسى السرسى من زوجته الأولى مجهولة الاسم اجراء لدى غريمهم لتبدأ أحداث الخروج الكبير فى حياة السراسوة.
هاجم المملوك مطاحنهم ومعاصرهم واجترأ على طلب الوطر من كنتهم مريم، زوجة الشيخ أحمد الابن الأكبر لسيد أحمد الثانى، وأم أحمد الثانى بطل الخروج الكبير، ولم يجد السراسوة بدا من التخطيط لقتل المهتار القديم والخروج من سرس، ظنا منهم انها مجرد أشهر حتى يذهب الوالى محمد على ويجيء آخر على عادة الحكم العثمانى.
ان رحلة الخروج الدامية التى تقشعر لها الأبدان وتدمع من تأثيرها الأعين هى من أجمل الصحائف التى سطرها قلم فى أدبنا العربى، فلقد تضافرت قوى الطبيعة ضد هذه الأسرة التى خرجت من عرينها تتخفى تحت جنح الليل فى صورة أعراب يجوبون البلاد بقطعانهم، لكن القلم الروائى الرائع لا يتركنا حيارى أمام ذلك الوضع المأساوى للأسرة المنكوبة، فيأبى إلا أن يطلعنا على أدق التفصيلات فى تلك الرحلة الرهيبة.
اختاروا ان يذوبوا فى خضم الدلتا، وذهبوا الى أبعد مكان يمكن أن تطالهم فيه يد الوالى الجبار، لكنهم تبعثروا على طوال الطريق من سرس الليان وحتى ذلك المكان الذى استقروا فيه الى جوار تل الذئاب التابع لكشوفية السنبلاوين فى مديرية الدقهلية.
ولأنهم كانوا قد قطعوا على أنفسهم عهدا بأن يتوقفوا عن الفرار فى المكان الذى يدفنون فيه أحدهم استقروا فى تلك البقعة البعيدة بجوار تل الذئاب لما توفيت جدتهم الكبرى مجهولة الاسم، وأصبح لهم فى ذلك الثرى أحباباً يستحيل أن يتركوهم ويمضوا، لكنهم فى جوارهم مع الأعرابى الشرس شيخ فخذ المحاليف من قبائل السعدنى يستدرجون الى صراع يهدد وجودهم من جديد.
من دون مبالغة رواية ملحمة السراسوة لأحمد صبرى أبو الفتوح هى من أهم الروايات التى صدرت فى السنوات الأخيرة، وأجدنى أقول إنها ربما تكون من أهم الروايات فى الأدب العربى عندما يكتمل نشر باقى أجزائها، وما هذه الإطلالة إلا مقدمة لبحث أتوافر الآن على إعداده ودراسة شرعت بالفعل فى كتابتها، عن مسارات وأزمان وأسلوبيات هذه الرواية الفذة.

هناك تعليق واحد:

  1. اربعة ايام من المتعة الخالصة لم انم فيها الا سويعات قليلة ...عائلة السرسى ومريم وموسى واحمد ... عمل ملحمى حقيقى ...حاولت ان اجد اى خطأ فى اللغة او وصف القرى او حتى السرد فلم اجد....فى انتظار باقى الملحمة وكل خوفى ان تفسدها الدراما التلفزيونية
    -----------
    دكتور عصمت النمر

    ردحذف